كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالمؤمن يقول: هذه كلمة صدق، والكافر يقول- والعياذ بالله-: هذه الكلمة غير صدق، والمسألة على أي تقدير منتهية، واحد جاء وأخذ الكون وقال: لا يوجد إله إلا أنا، والذي أخذ منه الكون إله ولكن أَعَلِمَ أن الكون أخذ منه أم لم يعلم بذلك؟ إن لم يكن قد دري تكون مصيبة في هذا الإله، وإن كان قد دري فما الذي أسكته؟ فالمسألة- إذن- محلولة، هذه مسألة الشرك.
إن الإيمان بوحدانية إله جاءت لتريح النفس البشرية من كثرة تلفتاتها إلى آلهة متعددين، إنّه هو الحق، وهو الذي ينفع ويضر، إنكم حين تكونون لإله واحد كمثل العبد يكون لمالك واحد، أما عندما تعبدون آلهة متعددين تكونون كمثل العبد الذي له شركاء وياليتهم متفقون؛ بل هم مختلفون.
بعد ذلك يأتي في المرحلة الثانية وهي: اليأس من رَوْح الله، والرَّوْح من الرائحة وهي النسيم، فساعة تكون في ضيق والجو حار تلتفت لتجد واحة فتأوي إلى ظلها وهوائها وتلجأ إلى حضنها، هذه الراحة يعطيها الله لمن لا ييأس من روْح الله فتعطيه صلابة إيمانية لاستقبال أحداث الحياة؛ لأن الحياة أغيار، وأحداثها متعددة، وللعالم وللكون الظاهر سنن في الأسباب والمسببات.
هَبْ أن أسبابك ضاقت بشيء ولم يعد عندك أسباب له أبدًا، فالذي لا يؤمن بإله قوي يخرق الأسباب، ماذا يفعل؟ ينتحر كما قلنا.
إذن فاليأس من روْح الله هو من جعل قوة الله العليا التي خلقت النواميس متساوية مع النواميس بحيث إذا ضاقت وعزت أسبابها البشرية في شيء يئس منها، أما المؤمن فنقول له: أنت لا تيأس؛ لأنك مؤمن بإله قادر فوق النواميس؛ فالذي ييأس من روْح الله كأنه يعطل طلاقة القدرة الإلهية على النواميس الكونية، إنّ الله، هو خالق هذه النواميس. فعندما ييأس إنسان من روح الله، يكون قد سوّى الله- بطلاقة قدرته- بالنواميس، إنّ الذي تأباه النواميس فسبحانه قادر أن ييسره.
وبعد ذلك جاء بعقوق الوالدين وهما الخلية الأولى التي يواجهها الإنسان، وهما السبب المباشر في إيجادك؛ لأنك حين تعق وتعصي من كان سببًا مباشرًا لوجودك تكون قد عققت وعصيت من كان سببًا أوليًا لوجودك، وهو الله الذي لم تره، إذن فاحترامهما والبرّ بهما ليس- فقط- لأنهما سبب في وجودك وإنما- أيضا- لأنهما ربياك صغيرًا فعليك بالبر بهما، وهذا يحثك ويدفعك إلى أن تحفظ الجميل لمن كان سببًا في إيجادك، وتربيتك، وعندما ترقيها وتتساءل: من أوجد أباك؟ جدّك؟ تصل إلى أين؟ لا يمكن أن تكون لها نهاية إلا أن تتصل بمن لا نهاية له، وهو أن الله قد خلق آدم.
ثم قال: قتل النفس، والقتل هو نقض بنية الكائن، وهو يختلف عن الموت، فالموت أن يموت الإنسان وبنيته سليمة، لكن إن تلقى ضربة على رأسه فهو يموت منها، هذا هو نقض البنية سواء أكان الضرب بحجر أم برصاصة أم بأي شيء. ولنقرأ القرآن بإمعان، إنَّ الحق يقول: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران: 144].
فالموت هو سلب الحياة بدون نقض بنية، وهذا لا يجريه إلا الله، إنما القتل بهدم البنية، فأي إنسان يستطيع أن يفعله، فتخرج الروح بإذن الله، وليس معنى ذلك أن أحدًا عجّل بأجل القتيل، لا، ولكنه تدخل في بنيان أقامه الله فهدمه، ولو لم يتدخل أحد في بنيان الله ليهدمه لكان أجله قد جاء. إذن فالقاتل يُعاقب لأنه تدخل في هدم البنية وهو يعرف أن هذه الروح لا تحل إلا في بنيان له مواصفات خاصة تقتضي أن يكون المخ سليمًا، وكذلك القلب، وبقية أجزاء الجسم. لكن حين يجيء الأجل يموت الإنسان ولو لم ينقض أحد البنية.
وضربنا مثلًا لنقرِّب هذا الأمر- ولله المثل الأعلى:
إنّ هذه الروح نشبهها بالكهرباء، فأنت لا تعرف الروح ولم ترها ولم تسمعها ولم تشمّها ولم تذقها، إذن فبأي وسيلة من وسائل الإدراك أنت لا تعرفها. لكنك تعرف أنها تدير حياة جسمك كله، بدليل أن الروح عندما تُسحب من الجسم يصير رِمّة. وقد جعلها الله كدليل ذاتي في النفس البشرية على وجود إله لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، تقول: لا نرى الله. نقول لك: نعم، فهو سبحانه يقول: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21].
إن الحق لا يطالبك بأن تبصر ما في الكون فقط من آيات، بل إن الأدلة لا تتعداك أنت أولًا، فروحك التي تدير جسمك أين هي؟ ما شكلها؟ ما لونها؟ ما رائحتها؟ أتعرف؟ لا، ولكنها موجودة فيك وأنت لا تراها، فكيف تطلب أن ترى إلهًا وقد خلق شيئًا لم تقو على أن تراه؟ أمخلوق لا تقدر أن تراه، وبعد ذلك تريد أن ترى خالقه. إذن فمن عظمته أنه لا يُدْرَك، ويقول الحق سبحانه وتعالى عن لحظة تنزل الروح في الجسم: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72].
لأنه سيكون إنسانًا سويًا، فإن شبهنا تلك الروح بالكهرباء- ولله المثل الأعلى- هل تعرف ما هي هل رأيتها؟.
لم ترها، هل أحد عرفها؟ الذين اكتشفوها، أعرفوا ما هي؟ لم يعرفوا، إنما نعرفها بآثارها، فساعة نرى المصباح منيرًا نقول: جاءت الكهرباء، وساعة تدور المروحة تقول: الكهرباء جاءت. إذن فأنت تعرفها بآثارها، كذلك تعرف الشخص أنه مات عندما لا تجد له حركة. وعندما تخف الحركة وتَخْفُت يقولون: خذ الحركة من شيء إن وقف يكون الموت، وليس من اليد، لأن اليد قد لا تتحرك لإصابتها بالشلل، بينما الإنسان مازال حيا؛ ولذلك هات المرأة وضعها أمام مخرج النفس، فإن وجدت بخارًا على المرآة فهذا يعني أن هذا الإنسان مازال حيًا، وفيه روح، وكذلك عندما ينكسر المصباح الكهربائي فالكهرباء لا تعمل عملها؛ لأن الكهرباء لا تظهر إلا في قالب من هذا النوع، زجاجة مفرغة الهواء مصنوعة بشكل خاص إن انكسرت أو تلفت يذهب النور.
إذن فعندما نهدم الجسم لا تجد الروح الوعاء الذي تظهر فيه، فكذلك المصباح الكهربائي إن انكسر تكون الكهرباء موجودة في الأسلاك إنما لا يوجد نور وعندما تأتي بمصباح جديد يأتي النور، كذلك الروح لا تظهر إلا في الجسد الذي له مواصفات خاصة، هذا وإن القتل هو دليل عجز القاتل، لأن القاتل حين يقتل خصمه فهذه شهادة منه أنه أعجز من خصمه، صحيح أنه قد قدر عليه وضربه وأماته وهذا مظهر قدرة بشرية حمقاء. لكن في الواقع أن هذا عجز.
إن معنى القتل ونقض الحياة أن القاتل يعلن أمام الملأ أنه لا يستطيع أن يواجه حركة حياة خصمه، ولا يرتاح إلا إذا مات هذا الإنسان، إذن فقد شهد القاتل حين يقتل بعجزه. فلو علم القاتل أن قتله لنفس أخرى ليس دليل قدرة وقوة له ولكنها شهادة عجز، وأنه لا يمكن أن يواجه حياة هذا الحي إلا بأن يميته لما قتله، والحق يحمي النفس البشرية من القتل حتى لا يكون أي إنسان مهددا، وحتى لا تتعطل الخلافة التي أرادها الله في الكون.
ثم تأتي كبيرة أخرى وهي: قذف المحصنات الحرائر، ونعرف أن ركنًا من أركان المجتمع السليم أن تظل الحرائر مصونات كي لا يعاني النشء والنسل الذي ينسل منهم من ظن الريبة والعار، وحين لا تظن النفس البشرية بريبة فهي تواجه الحياة بمنتهى طلاقتها وبمنتهى قدرتها؛ لذلك فالذي يحب أن تشيع الفاحشة ويقذف المحصنات والحرائر بغير ما اكتسبن فهو يحدث زلزلة في المجتمع، زلزلة في نسب أفراد المجتمع، ويضاربها من ليس له ذنب، يضار بها الأولاد الصغار، وما ذنبهم وقد قال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18].
وبعد ذلك قال: أكل الربا؛ لأن الربا يصنع خللًا إقتصاديًا فهو يحمل غير الواجد أن يزيد ثروة الواجد.
والزنا كبيرة من الكبائر والحق يقول: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء: 32].
فالزنا يجعل العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة استمتاع فقط، والعلاقة الأولى التي أرادها الله حينما أوجد حواء لآدم هي أن تكون المرأة سكنًا وليست أداة استمتاع فقط، والاستمتاع إنما جاء لحفظ النوع وأطلقه في النفس البشرية؛ لأن آثار هذا الاستمتاع تبعتها طويلة من تربية للأطفال الذين تطول طفولتهم ويحتاجون لرعاية، ولو لم يربطها بهذا الاستمتاع لكان كثير من الناس يزهد في الأولاد.
وكذلك الفرار يوم الزحف كبيرة من الكبائر، لأن الفرار يصنع خللًا في المجتمع الإيماني؛ لأن معنى الزحف أن أعداء الإسلام أغاروا علينا، وما داموا قد أغاروا علينا فكل مسلم يقف على ثغرة من ثغور الإسلام، حتى لا يمكِّن أعداء الإسلام من ديار الإسلام، ولتظل كلمة الله هي العليا، ففرار المسلم يعطي أسوة على ضعف الإيمان في النفس، ولذلك لا تغتروا بأن هذا صار مؤمنًا وذاك صار مؤمنًا، فلو كان مؤمنًا حقًا ووثق بالغاية فهو لا يهاب القتال؛ لأنه إن قتل صار شهيدًا ومبشرًا من الله بكذا وكذا؛ لذلك فالفرار في يوم الزحف يعطي أسوة سيئة ليس في الحرب فقط، بل سيعطي شيوع خلخلة إيمانية في النفس البشرية، والحق سبحانه وتعالى أوضح أن المؤمن عندما يدخل الحرب يرغب في أحد أمرين كلاهما حسن: النصر أو الشهادة، فقال سبحانه: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ} [التوبة: 52].
والمؤمن يتربص بالكافر ليحقق ما قاله الله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة: 52].
فإذا كان الحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمن أن يثبت يقين إيمانه بأن يفقد الحياة التي هي سبب التمسك بمظاهر الحياة لأنه ذاهب لحياة أحسن، ولكن الحق سبحانه وتعالى لا يحب للمؤمنين أن يقدموا على عمليات انتحارية إلا حين تكون هناك مظنة للنصر بدليل قوله الحق: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16].
فالإنسان لا يدخل في معركة وهو غير مستعد لها، أو ليس لديه مظنة النصر، إنه إن فعل ذلك فإنما ينقص المسلمين واحدًا، فماذا أفادنا؟ إن على المؤمن أن يقبل على الاستشهاد بثمن يخصه وهو الجنة، وبثمن يُبقي للجماعة الأمان أو النصر.
وبعد ذلك: واليمين الغموس. واليمين الغموس تمثل قضية من قضايا خلل المجتمع؛ لأن اليمين الغموس هي السبب الذي يغمس صاحبه في النار؛ لأنه حلف على شيء أنه كان وهو لم يكن، أو على شيء لم يكن وهو قد كان، وبهذا يتسلل الكذب إلى الصدق، ولا يعرف القاضي التمييز حين يفصل في الحقوق، هناك إنسان يكذب ويسشهد ويحلف اليمين أن هذا حدث ويؤدي ذلك إلى ضرر بالغير، فمن يريد أن يظلم لن يعدم شاهدين على باب المحكمة يحلفان له، عندئذ يصبح الإنسان غير مطمئن إلى حركة حياته ولا إلى مصالحه.
وتأتي كبيرة أخرى وهي الغلول. وتعني أن المسلمين حين يلتحمون بأعدائهم ويأخذون منهم الغنائم وهي ما نسميها السَلَب.. وهي أسلحة الأعداء وما عندهم من أشياء.. فبالله من يدخل معركة بهذا الشكل ويجد غنيمة ويأخذها، أيكون قد نقض عملية الحرب في سبيل الله أم لا؟ إنه ينقض عملية الحرب في سبيل الله، إن الحرب في سبيل الله شرعت لتكون كلمة الله هي العليا، ولذلك يقول الحق: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران: 161].
لقد قلنا: إن كان قد غلّ بقرة.. فسيحملها يوم القيامة، وسيكون لها خوار..
وإن غل في أسمنت فسيأتي حامله يوم القيامة، ومن غلّ في حديد أو استورد لحوما فاسدة أو سمكا نتنا فإنه سيأتي وهو يحمله يوم القيامة.
ثم تأتي كبيرة وهي شهادة الزور. فشهادة الزور أيضا ركن من أركان فساد المجتمعات كلها؛ لأنها لا تجعل المؤمن مطمئنا على حقه.
أما السحر فهو كبيرة تهدد المجتمع بما يفزع كيانه؛ لأنه ينتهي إلى قوة خفية، إذ ليس أمام الذي يتعرض للإصابة به عدو مباشر يواجهه، حتى يرتب لنفسه الحماية منه. ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} [البقرة: 102].
أي ليس له نصيب في الآخرة، وربما يقول قائل: إذا كانت هذه مضرة السحر في هدم كيان المجتمع وتفزيعه، فلماذا وجد؟ نقول له: إن الكائنات مخلوقة لله، وكل كائن له قانون، وقد يكون قانون كائن أخف وأسرع من قانون آخر، فأفراد الجنس الواحد محكومون بقانون واحد. وحين يوجد لأفراد الجنس الواحد قانون يحكم حركته يكون قد وجد في ذلك الجنس تكافؤ الفرص، بمعنى أن لك فرصة هي لغيرك. أما أن توجد لك فرصة ولا توجد لغيرك، فهذا يمثل خللًا في تكافؤ الفرص في الجنس الواحد.